عرض كتاب "الإضراب الجماهيري" - روزا لكسمبورج
كتوبر 1996
الناشر:
الاشتراكية الثورية
"أنها تتدفق الآن كما لو كانت موجة عاتية تغمر المملكة كلها، تتفرع إلى شبكة هائلة متشعبة، تغلي منبثقة من الأعماق كأنها نبع فياض ثم تختفي تماما تحت الأرض.. إضرابات سياسية واقتصادية، إضرابات جماهيرية، إضرابات عامة وإضرابات جزئية، مظاهرات وإضرابات تصحبها معارك.. إضرابات عامة في فروع الصناعة المختلفة وإضرابات في المدن المختلفة.. مظاهرات سلمية وحرب شوارع. كل هذه تتداخل وتتقاطع مع بعضها البعض وأحيانا تسير في نفس الاتجاه.. ظاهرة تشبه بحرا دائم التحرك والتقلب."
هكذا كتبت روزا لوكسمبورج في كتيبها العظيم الإضراب الجماهيرب. ومعظمنا لم يعش أحداث إضراب جماهيري ثوري ضخم، لم يشعر بحماس وقوة العمال، بطاقة الفعل الثوري وهي تتفجر بداخلهم، لم يتعلم كيف يتطور وعي العمال بسرعة فائقة عندما يندرجون في النضال. ولحسن الحظ فكتيب روزا لوكسبورج يمكن أن ينقل لنا تلك الخبرة ببراعة فائقة.
كتبت روزا هذا الكتيب وقت وجودها في فنلندا 1906-للتعافي من فترة السجن الذي قضتها في ألمانيا. وولدت روزا في بولندا عام 1871 ومنذ نهاية تسعينات القرن التاسع عشر وحتي مقتلها عام 1919 عاشت روزا كمفكرة اشتراكية بارزة ومناضلة في موطنها بولندا بداية ثم في ألمانيا. قتلت روزا أثناء الثورة الألمانية بعدما رأت الأفكار التي خطتها في "الإضراب الجماهيري" وهي توضع محل التطبيق في ثورة 1917 في روسيا.
وهاجم "الإضراب الجماهيري" أفكار القيادات النقابية الألمانية التي باتت معادية تماما لفكرة الإضرابات السياسية والاقتصادية، فقبلها بشهور اجتمع مجلس اتحاد النقابات بكولونيا تحت شعار "السلام والهدوء هي ما تحتاجه النقابات الآن". فالبيروقراطية كانت تخشى الإضرابات الجماهيرية إلى تداعى سلطتها ونفوذها داخل الحركة العمالية. وكانت تخشي أن تدمر الإضرابات النقابات والمؤسسات العمالية التي تعيش البيروقراطية من ورائها. وحتى أولئك الذين قبلوا الإضراب من حيث المبدأ فقد رأوه كسلاح تكتيكي تشهره القيادات العمالية عندما تصل مفاوضاتها مع الرأسماليين إلى طريق مسدود.
وبدورها سخرت روزا من تلك الأفكار، فقد درست عن قرب الإضرابات الكبري التي جرت في بلجيكا في تسعينات القرن التاسع عشر، والاهم من ذلك تلك الإضرابات التي جرت إبان الثورة الروسية عام 1905 (والتي نستعرض أحداثها في مقال آخر هذا العدد)
أوضحت روزا أن الإضرابات ليست مجرد سلاح يشهره أي شخص وقتما يشاء -خاصة لو كان هذا الشخص من البيروقراطية النقابية- بل على العكس من ذلك، فهذه الإضرابات تندلع فجأة بشكل عفوي، بشكل غير متوقع في بعض الأحيان، ولأسباب طارئة، وليس نتيجة لتكتيك تم الاتفاق عليه في غرف مليئة بالدخان بين عدد محدود من الأشخاص. الإضراب الجماهيري ظاهرة طبيعية تخرج من قلب الصراع الطبقي، ليس أداة فعالة لنضال الطبقة العاملة فحسب، وانما هو "..طبيعة حركة الجماهير البروليتارية"
الأهم من ذلك أن روزا أوضحت أنه بدلا من يدمر النقابات العمالية، كما يدعي القادة النقابيون، فالإضراب الجماهيري -في الواقع أي إضراب- يعيد الحياة والحيوية لتنظيمات الطبقة العاملة.
".. فمن قلب العاصفة ومن الزوابع، من النار ومن بريق الإضراب الجماهيري، من معارك الشوارع.. تصعد ثانية.. مثل فينوس من قلب الأمواج.. تصعد نقابات عمالية شابة، عفية، مقاتلة.."
لقد أظهر منهج روزا الجدلي بوضوح، وللمرة الأولى، الآليات وطبيعة الإضرابات الجماهيرية، وحسب وصف روزا .." هي النبض الحي للثورة وفي الوقت نفسها دفة قيادتها القوية.." وأوضحت لنا أنه في فترة النضال الجماهيري، ورغما عن أنف القيادات النقابية، تسفر الإضرابات السياسية عن مطالب اقتصادية، وتسفر الاضرابات الاقتصادية عن مطالب سياسية، فالاثنان مرتبطان لا ينفصلان، يغذي كل منهما الآخر:
.. بعد انحسار موجة النضالية السياسية تترك بعض الزبد على الأرض، ومنه تندلع ألف نبتة من النضال الاقتصادي.. وعلى العكس، فنضال العمال الاقتصادي الدائم ضد الرأسمالي يبقى طاقاتهم السياسية حية في أي فترة، يكون نضالهم الاقتصادي ينبوع متجدد من الطاقة الثورية..
وهذه النضالات السياسية والاقتصادية تمثل ركن أساسي في الثورة وتميز الثورة الاشتراكية عن الثورات الأخرى .. لكي تستطيع الإطاحة بالرأسمالية تحتاج البروليتاريا إلى درجة عالية من التربية السياسية العملية، عبر النضال المستمر..على طريق الثورة..
ومن ناحية أخرى بذلت روزا كل جهدها لكي توضح أن تحليلها لا يعني بأي حال من الأحوال أنه لا ضرورة لاندراج العناصر المتقدمة في الطبقة العاملة حزب ثوري أو أنه لا دور للثوريين في الإضراب الجماهيري:
.. فهم -الثوريون- لا يمكنهم أن ينتظروا مكتوفي الأيدي صعود "الحالة الثورية"، أن ينتظروا أن تندلع الحالة الثورية وتهبط عليهم من السماء.. بل على العكس، يجب عليهم دائما أن يساهموا في دفع الأحداث وتطويرها..
لا يوجد كتيب مثل هذا باستطاعته تحميس القارئ بشرح الطاقة والتحرر الذي يجري في خضم النضال الجماهيري الثوري. أو يستطيع بمنتهى البساطة أن يوضح طبيعة الثورة الاشتراكية، وانها ليست مجرد الوقوف على المتاريس والاستيلاء على السلطة، ولكنها عملية طويلة الأمد من النضال السياسي.
".. إن الثورة تتطلب تدميرا كاملا للأساسات التي يقف عليها المجتمع، خفض أعلى طبقات المجتمع لأسفله، ورفع أدنى الطبقات في المجتمع لأعلاه. فالنظام (الاجتماعي) يجب هدمه وتحويله لفوضى، والفوضي الظاهرة (في السوق)، يجب تحويلها لنظام."
وأهمية هذا الكتيب بالنسبة لنا مرتبطة بالواقع الذي يتناوله -الواقع الروسي في 1905- فالطبقة العاملة صاعدة ولكن النقابات ضعيفة أو متواطئة، و"الإضراب الجماهيري" يوضح أن تقوية منظمات الطبقة العاملة وخلق أشكال تنظيمية جديدة مرتبط بالنضال القاعدي، هذا النضال لا ينفصل شقيه -السياسي والاقتصادي- بل يدفعان بعضهما البعض. يوضح لنا كذلك كيف ينفجر النضال الجماهيري فجأة وينمو حتى يكاد يهدد النظام الاجتماعي ككل. وأخيرا، يوضح أنه على الثوريين الاستعداد لمثل هذا الانفجار بالعمل على بناء الحزب الاشتراكي العمالي الثوري القادر على قيادة الغضب الجماهيري للإطاحة بالنظام الرأسمالي.
كتوبر 1996
الناشر:
الاشتراكية الثورية
"أنها تتدفق الآن كما لو كانت موجة عاتية تغمر المملكة كلها، تتفرع إلى شبكة هائلة متشعبة، تغلي منبثقة من الأعماق كأنها نبع فياض ثم تختفي تماما تحت الأرض.. إضرابات سياسية واقتصادية، إضرابات جماهيرية، إضرابات عامة وإضرابات جزئية، مظاهرات وإضرابات تصحبها معارك.. إضرابات عامة في فروع الصناعة المختلفة وإضرابات في المدن المختلفة.. مظاهرات سلمية وحرب شوارع. كل هذه تتداخل وتتقاطع مع بعضها البعض وأحيانا تسير في نفس الاتجاه.. ظاهرة تشبه بحرا دائم التحرك والتقلب."
هكذا كتبت روزا لوكسمبورج في كتيبها العظيم الإضراب الجماهيرب. ومعظمنا لم يعش أحداث إضراب جماهيري ثوري ضخم، لم يشعر بحماس وقوة العمال، بطاقة الفعل الثوري وهي تتفجر بداخلهم، لم يتعلم كيف يتطور وعي العمال بسرعة فائقة عندما يندرجون في النضال. ولحسن الحظ فكتيب روزا لوكسبورج يمكن أن ينقل لنا تلك الخبرة ببراعة فائقة.
كتبت روزا هذا الكتيب وقت وجودها في فنلندا 1906-للتعافي من فترة السجن الذي قضتها في ألمانيا. وولدت روزا في بولندا عام 1871 ومنذ نهاية تسعينات القرن التاسع عشر وحتي مقتلها عام 1919 عاشت روزا كمفكرة اشتراكية بارزة ومناضلة في موطنها بولندا بداية ثم في ألمانيا. قتلت روزا أثناء الثورة الألمانية بعدما رأت الأفكار التي خطتها في "الإضراب الجماهيري" وهي توضع محل التطبيق في ثورة 1917 في روسيا.
وهاجم "الإضراب الجماهيري" أفكار القيادات النقابية الألمانية التي باتت معادية تماما لفكرة الإضرابات السياسية والاقتصادية، فقبلها بشهور اجتمع مجلس اتحاد النقابات بكولونيا تحت شعار "السلام والهدوء هي ما تحتاجه النقابات الآن". فالبيروقراطية كانت تخشى الإضرابات الجماهيرية إلى تداعى سلطتها ونفوذها داخل الحركة العمالية. وكانت تخشي أن تدمر الإضرابات النقابات والمؤسسات العمالية التي تعيش البيروقراطية من ورائها. وحتى أولئك الذين قبلوا الإضراب من حيث المبدأ فقد رأوه كسلاح تكتيكي تشهره القيادات العمالية عندما تصل مفاوضاتها مع الرأسماليين إلى طريق مسدود.
وبدورها سخرت روزا من تلك الأفكار، فقد درست عن قرب الإضرابات الكبري التي جرت في بلجيكا في تسعينات القرن التاسع عشر، والاهم من ذلك تلك الإضرابات التي جرت إبان الثورة الروسية عام 1905 (والتي نستعرض أحداثها في مقال آخر هذا العدد)
أوضحت روزا أن الإضرابات ليست مجرد سلاح يشهره أي شخص وقتما يشاء -خاصة لو كان هذا الشخص من البيروقراطية النقابية- بل على العكس من ذلك، فهذه الإضرابات تندلع فجأة بشكل عفوي، بشكل غير متوقع في بعض الأحيان، ولأسباب طارئة، وليس نتيجة لتكتيك تم الاتفاق عليه في غرف مليئة بالدخان بين عدد محدود من الأشخاص. الإضراب الجماهيري ظاهرة طبيعية تخرج من قلب الصراع الطبقي، ليس أداة فعالة لنضال الطبقة العاملة فحسب، وانما هو "..طبيعة حركة الجماهير البروليتارية"
الأهم من ذلك أن روزا أوضحت أنه بدلا من يدمر النقابات العمالية، كما يدعي القادة النقابيون، فالإضراب الجماهيري -في الواقع أي إضراب- يعيد الحياة والحيوية لتنظيمات الطبقة العاملة.
".. فمن قلب العاصفة ومن الزوابع، من النار ومن بريق الإضراب الجماهيري، من معارك الشوارع.. تصعد ثانية.. مثل فينوس من قلب الأمواج.. تصعد نقابات عمالية شابة، عفية، مقاتلة.."
لقد أظهر منهج روزا الجدلي بوضوح، وللمرة الأولى، الآليات وطبيعة الإضرابات الجماهيرية، وحسب وصف روزا .." هي النبض الحي للثورة وفي الوقت نفسها دفة قيادتها القوية.." وأوضحت لنا أنه في فترة النضال الجماهيري، ورغما عن أنف القيادات النقابية، تسفر الإضرابات السياسية عن مطالب اقتصادية، وتسفر الاضرابات الاقتصادية عن مطالب سياسية، فالاثنان مرتبطان لا ينفصلان، يغذي كل منهما الآخر:
.. بعد انحسار موجة النضالية السياسية تترك بعض الزبد على الأرض، ومنه تندلع ألف نبتة من النضال الاقتصادي.. وعلى العكس، فنضال العمال الاقتصادي الدائم ضد الرأسمالي يبقى طاقاتهم السياسية حية في أي فترة، يكون نضالهم الاقتصادي ينبوع متجدد من الطاقة الثورية..
وهذه النضالات السياسية والاقتصادية تمثل ركن أساسي في الثورة وتميز الثورة الاشتراكية عن الثورات الأخرى .. لكي تستطيع الإطاحة بالرأسمالية تحتاج البروليتاريا إلى درجة عالية من التربية السياسية العملية، عبر النضال المستمر..على طريق الثورة..
ومن ناحية أخرى بذلت روزا كل جهدها لكي توضح أن تحليلها لا يعني بأي حال من الأحوال أنه لا ضرورة لاندراج العناصر المتقدمة في الطبقة العاملة حزب ثوري أو أنه لا دور للثوريين في الإضراب الجماهيري:
.. فهم -الثوريون- لا يمكنهم أن ينتظروا مكتوفي الأيدي صعود "الحالة الثورية"، أن ينتظروا أن تندلع الحالة الثورية وتهبط عليهم من السماء.. بل على العكس، يجب عليهم دائما أن يساهموا في دفع الأحداث وتطويرها..
لا يوجد كتيب مثل هذا باستطاعته تحميس القارئ بشرح الطاقة والتحرر الذي يجري في خضم النضال الجماهيري الثوري. أو يستطيع بمنتهى البساطة أن يوضح طبيعة الثورة الاشتراكية، وانها ليست مجرد الوقوف على المتاريس والاستيلاء على السلطة، ولكنها عملية طويلة الأمد من النضال السياسي.
".. إن الثورة تتطلب تدميرا كاملا للأساسات التي يقف عليها المجتمع، خفض أعلى طبقات المجتمع لأسفله، ورفع أدنى الطبقات في المجتمع لأعلاه. فالنظام (الاجتماعي) يجب هدمه وتحويله لفوضى، والفوضي الظاهرة (في السوق)، يجب تحويلها لنظام."
وأهمية هذا الكتيب بالنسبة لنا مرتبطة بالواقع الذي يتناوله -الواقع الروسي في 1905- فالطبقة العاملة صاعدة ولكن النقابات ضعيفة أو متواطئة، و"الإضراب الجماهيري" يوضح أن تقوية منظمات الطبقة العاملة وخلق أشكال تنظيمية جديدة مرتبط بالنضال القاعدي، هذا النضال لا ينفصل شقيه -السياسي والاقتصادي- بل يدفعان بعضهما البعض. يوضح لنا كذلك كيف ينفجر النضال الجماهيري فجأة وينمو حتى يكاد يهدد النظام الاجتماعي ككل. وأخيرا، يوضح أنه على الثوريين الاستعداد لمثل هذا الانفجار بالعمل على بناء الحزب الاشتراكي العمالي الثوري القادر على قيادة الغضب الجماهيري للإطاحة بالنظام الرأسمالي.