مصر و المصريين
منذ أن برزت الحركة الوهابية في جزيرة العرب وهي تتربص بمصر وتكيد لها.. ويعود السبب في هذا الموقف العدائي إلى كون مصر كانت على الدوام عقبة كئودا في طريق هذه الحركة.. كان الوهابيون أشبه بالخفاش الذي يعشق الظلام.. ومصر كانت المصباح ومنارة المسلمين في كل مكان.. من هنا كان الصدام.. ومن هنا برز العداء.. ولا شك أن هذه المقدمة الموجزة تفرض علينا التعرف على هذه الحركة وعلى إمامها ومؤسسها محمد بن عبد الوهاب...
لم يكن محمد بن عبد الوهاب (1115هـ - 1206هـ/ م1703- 1794م) صاحب أطروحة أو اجتهاد في مجال الدين فليس في تاريخه ما يشير إلى شي من هذا..
وما تشير إليه المراجع الوهابية هو انه نشا في عائلة حنبلية وكان والده احد فقهاء الحنابلة في منطقة نجد موطن العائلة.. غير أن ابن عبد الوهاب شذ عن العائلة وهاجر إلى البصرة في طلب العلم إلا انه طرد منها فاتجه إلى الشام ولم يوفق فيها فعاد إلى موطنه نجد بخفي حنين وعكف على دراسة كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية.
وما لبث أن وجد ضالته في هذه الكتب وفاجأ الجميع بفكرة الاستواء والتجسيم والمكانية التي تتعلق بصفات الله تعالى... وفكرة مقاومة الأضرحة والمقامات ورفض التوسل بالأولياء واعتبار ذلك صورة من صور الشرك والضلال...
وفكرة مقاومة العادات والأعراف السائدة في واقع المسلمين مثل الموالد والاحتفالات بالمناسبات الدينية والنذور للمساجد.. وهي نفس الأفكار التي أعلنها ابن تيمية من قبل وتصدى له العلماء وحاكموه وانتهى الأمر بحبسه وموته في الحبس...
وما حدث لابن تيمية حدث لابن عبد الوهاب حين أعلن أفكاره حيث تصدى له والده وزجره وناهضه شقيقة سليمان وكتب رسالة يرد فيها على أفكاره..
ويمكن تركيز أفكار ابن عبد الوهاب فيما يلي:
توحيد الألوهية فقد اعتبر أن المسلمين انحرفوا عن التوحيد، ووقعوا في الشرك وعددوا آلهة (القبور)، إنكار التوسل بالأولياء والصالحين.
منع شد الرحال للمساجد (أي السفر لزيارة قبر الرسول (صلى الله عليه وآله) أو الصحابة أو أمهات المؤمنين أو غيرهم).
منع البناء على القبور وكسوتها وإنارتها.
محاربة البدع ( الموالد- الصلاة على الرسول بعد الأذان).
وهذه الأفكار عدتها المراجع الوهابية بمثابة أهداف قامت الحركة الوهابية من اجل تحقيقها.
ويظهر من هذه الأفكار مدى بعدها عن السياسة والإصلاح والنهوض بالأمة في تلك الفترة كانت تتربص بها القوى الاستعمارية إلا أن الوهابيين ضخموا هذه واعتبروها فيصلا بين الحق والباطل والشرك والتوحيد وعلى أساسها اصطدموا بالعلماء في زمانهم مما كانت نتيجته طرد محمد بن عبد الوهاب من نجد ليفر منها إلى العينية التي طرد منها أيضا ليتلقفه ابن سعود أمير الدرعية..
وقد وجد ابن سعود في دعوة ابن عبد الوهاب الغطاء الشرعي الذي يمكن من خلاله تحقيق حلمه بالسيطرة على الجزيرة العربية ليكون حاكمها الأوحد..
من هنا قام ابن سعود بترتيب اتفاقية مع ابن عبد الوهاب ذكرتها المصادر الوهابية بشيء من الفخر والاعتزاز..
قال ابن سعود: ابشر بالخير والعز والمنعة..
قال ابن عبد الوهاب: وأنت ابشر باليمن والغلبة على جميع بلاد نجد.
قال ابن سعود: ابشر بالنصر لما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد ولكن اشترط عليك شرطين:
الأول: إذا نحن قمنا بنصرك وفتح الله لنا ولك البلاد لا ترحل عنا ولا تستبدلنا بغيرنا..
الثاني: إن لي على أهل الدرعية خراجا آخذه منهم في وقت اقتطاف الثمار فلا تمنعني عن استيفائه منهم.
قال ابن عبد الوهاب: أما الأولى فامدد يدك لأبايعك... فمدها له وقبض عليها قائلا: الدم الدم والهدم الهدم.. وأما الثانية لعل الله يفتح لنا الفتوحات فيعوضك من الغنائم ما هو خير منها..
قال ابن سعود: لقد حللت أيها الشيخ في بلد خير من بلدك فلا تخش أعداء الله ولو انطبقت علينا نجد كلها ما أخرجناك عنا...
هذا نص الاتفاق بين ابن سعود وابن عبد الوهاب كما ذكرته مصادر الوهابية وهو اتفاق على ما هو ظاهر موجه ضد المسلمين وليس ضد أعداء المسلمين.. وقد كشفت المصادر التاريخية المجازر الوحشية والجرائم البشعة التي ارتكبها الوهابيون بسيوف السعوديين ضد المخالفين من المسلمين الذين رفضوا قبول الوهابية والتسليم لابن سعود...
ولما كثرت جرائم الوهابيين في جزيرة العرب واستفحل أمرهم استنجد الخليفة العثماني بمحمد علي في مصر ليجهز حملة لتأديب هؤلاء البدو المارقين...
وكان أن دخلت القوات المصرية جزيرة العرب بقيادة سوسون ونجحت في القضاء على الوهابيين ودخلت عاصمتهم الدرعية وفر أبناء سعود وسقطت الدولة السعودية الأولى وعادت القوات المصرية إلى قواعدها..
إلا أن السعوديين عادوا إلى ساحة الجزيرة العربية من جديد وفرضوا نفوذهم وبسطوا سيطرتهم وقضوا على خصومهم وذلك بمساعدة الإنجليز الذين بدأت طلائعهم في الظهور بالمنطقة العربية.. وتمكن عبد العزيز آل سعود من تأسيس الدولة السعودية الثانية التي أعلنها مملكة بعد أن تخلص من العناصر الوهابية المتشددة التي أعلنت الحرب عليه بسبب خروجه على المبادئ الوهابية وإرسال ولده سعود ليدرس في بلاد الشرك (مصر)، وذلك لكثرة الأضرحة والمقامات بها والتي تعد أصناما في منظور الوهابيين.. ومنذ ذلك الحين لم ينس الوهابيون مصر وما فعلته بهم فكان أن أعلنوا الحرب عليها واضمروا لها العداء والكراهية.. وهناك حادثة مشهورة للوهابيين وهى حادثة إحراق المحمل المصري في مكة الذي يحمل كسوة الكعبة والاعتداء على المصريين المصاحبين..
كيف تمكنت الوهابية من التسلل إلى مصر؟
بداية يمكن القول أن الصراعات الداخلية بين الوهابيين وخصومهم وبين آل سعود والوهابيين المتشددين من تيار الأخوان بالإضافة إلى الصراعات بين أل سعود وخصومهم من القبائل والعائلات التي كانت تنازعهم الحكم والسيطرة كل ذلك قد حال دون انتشار الوهابية خارج حدود الجزيرة العربية.. إلا انه مع بداية العشرينيات تمكنت الوهابية من استقطاب محب الدين الخطيب الذي وفد إلى مصر فارا من وجه العثمانيين بالشام بعد اتهامه بالانتماء إلى حركة تحرير تركيا الفتاه المناهضة لدولة العثمانيين.. وقام محب الدين الخطيب بتأسيس المطبعة السلفية ومكتبتها بمنطقة الروضة والتي شهدت ميلاد أول كتاب وهابي في مصر ثم توالت من بعد ذلك الكتب الوهابية والحنبلية التي تخدم الخط الوهابي.. وقام الخطيب الذي كان على صلة وثيقة بعبد العزيز بن باز احد رموز الوهابية آنذاك والذي أصبح إمام الوهابية فيما بعد ـ بتحقيق كتاب فتح الباري شرح البخاري لابن حجر العسقلاني المصري والسطو عليه وحذف شروحات هامة منه تصطدم بالخط الوهابي وقد أقرا بذلك في مقدمة الكتاب الذي صدر فيما بعد عن طريق المطبعة السلفية...
وتعد الطبعة الخاصة بفتح الباري التي نشرها الخطيب هي الطبعة الشائعة في مصر والمتداولة بين أيدي الشباب المسلم وعناصر التيارات الإسلامية وذلك بالإضافة إلى الكتب الأخرى التي قام بنشرها في دائرة الخط الوهابي.. ثم استقطبت الوهابية بعد ذلك احد رجال الأزهر المتشددين وهو الشيخ محمد حامد الفقي والذي قام بدوره بتأسيس أول قاعدة للوهابيين في مصر وهى جماعة أنصار السنة المحمدية التي تبنت الوهابية قلبا وقالبا وأخذت تدعو لها من فوق المنابر وقامت بإصدار مجلة تحت اسم: الهدى النبوي تغير اسمها فيما بعد إلى التوحيد التي مازالت تصدر حتى اليوم وذلك في عام 1926م، إلا انه لم تتح للوهابية طوال فترة العصر الملكي الفرصة الكافية للانتشار والتمكن في واقع المسلمين والتأثير على العقل المسلم وتشكيله وذلك لكون الساحة لمصرية كانت مشغولة آنذاك بالقضية الوطنية ومقاومة الاحتلال الإنجليزي وذلك بالإضافة إلى الحالة الأدبية والثقافية التي كانت منتعشة أيضا كانت هناك جماعة الإخوان المسلمين والجمعية الشرعية وهي جمعية سلفية ذات ميول صوفية مناهضة لجماعة أنصار السنة.
والخلاصة أن الساحة لم تكن خالية أمام الوهابية في تلك الفترة فقد كانت مليئة بالصعوبات والعقبات والتحديات التي حالت دون انتشارها وبروزها في الساحة الإسلامية.
إلا أن هذا لا ينفى أنها تمكنت من استقطاب العديد من رجال الأزهر وبعض رجال التعليم مثل الشيخ عبد الرازق عفيفي والشيخ عبد الرحمن الوكيل والأستاذ محمد على عبد الرحيم الذي كان له دوره البارز في فترة السبعينات داخل الجامعة المصرية حيث تمكن من تعبئة الطلاب بالأفكار الوهابية لأولئك الطلاب الذين قامت على أكتافهم الجماعات الإسلامية فيما بعد.
وكان الثلاثة المشار إليهم قد عملوا في مجال التدريس في الجزيرة العربية فترة طويلة. وعفيفي على وجه الخصوص أقام هناك إقامة دائمة حتى أصبح من هيئة كبار العلماء.
ومع سقوط الملكية في مصر جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن حيث بدأ عبد الناصر في الاتجاه نحو الشرق ومعاداة الغرب وأمريكا... وبعد ضرب الإخوان وتصفيتهم اتجهت الدولة إلى محاربة السعودية وسقطت جماعة أنصار السنة ضحية الموقف المصري المعادي لمنبع الوهابية وتوقف نشاطها حتى جاء السادات فعادت لمزاولة نشاطها من جديد بصورة أكثر نشاطا وفاعلية..
وكان تبني السادات سياسة معاكسة لساسة عبد الناصر حيث اتجه نحو الأمريكان وتصالح مع السعودية قد فتحت مصر على مصراعيها أمام المد الوهابي.. وبرزت جماعة وهابية جديدة على الساحة كانت قد انشقت عن جماعة أنصار السنة وتسمت باسم جماعة أنصار الحق وأصدرت مجلة باسم الهدى النبوي التي مازالت تصدر حتى اليوم.. وبرزت أيضا مجلة الاعتصام التي كانت تتبع الجمعية الشرعية وكانت بعيدة عن الخوض في السياسة وقد تم دعمها من قبل الوهابيين لتلعب دورا بارزا في خدمة الخط الوهابي وجماعة الإخوان قبل صدور مجلة الدعوة الخاصة بها.